حسن عبد الموجود يكتب : البدوى.. بعيدًا عن خيمته

حسن عبد الموجود يكتب : البدوى.. بعيدًا عن خيمته
حسن عبد الموجود يكتب : البدوى.. بعيدًا عن خيمته

خلال أيام (يناير 2011) سار حمدى وسط الأمواج المتلاطمة وهو يحملُ لافتة بدائية، قطعة من «كارتونة»، كَتَبَ عليها عبارة حماسية تُشبه كثيراً من العبارات وقتها. سرتُ إلى جواره ولاحظتُ، يا للغرابة، أن كل القادمين باتجاهنا يتوقفون لحظات ليقرأوا ما دوَّنه حمدي، فشعر بإطراء كبير، خاصة مع ازدياد الجميلات حوله. ثم بعد لحظات لاحظنا، أنا وهو، أن من يتوقَّفون أمامه يُقدمون على تصرف غريب، بنفس الطريقة: أنهم ينحنون إلى أسفل قليلاً، ويقلبون رؤوسهم، كأنهم يؤدون طقساً غريباً، هو شيخه وهم مريدوه. ارتبك حمدي، وهو يسألنى لماذا يفعل الناس ذلك؟ فكرت قيلاً، ثم تقدمته بخطوة لأنظر مثلهم إلى اللافتة فاكتشفت أنه يرفعها مقلوبة، وأنه لكى تقرأ العبارة فلا بد من أن تقلب رأسك مثلها.

اقرأ ايضاً| أبو جليل فى الجامعة الأمريكية: شكرا لتشجيع العجز!

لخص لى ذلك الموقف حالة حمدي، الفوضوي، الذى يشتبك مع أى موقف بلا استعداد، ولا يهمه شكله، أو كيف يبدو فى عيون الآخرين. كان يجرؤ أحياناً على التصريح بأنه وسيم، وهذا يعنى أنه كان مرتاح البال ومطمئناً إلى شكله، أحياناً كان يظهر بقميص فضفاض للغاية يتركه منسدلاً خارج البنطلون على ساقيه ، فيبدو كأنه يرتدى خيمة ، وأحياناً يفكر فى إضفاء لمسة أناقة على نفسه فيرتدى «جاكت» فوق الخيمة. كانت علبة البوكس لا تفارق يده، ولم تكن سيجارته المفضلة، إذ كان يقبل السجائر من أى شخص يجلس فى مجلسه، وكنت أحذره من أن تغيير السجائر سيتسبب فى نوبات كحة مسائية، لكنه كان يضحك كأننى أقول نكتة. كانت النكتة سلاحه الأول، لم يكتب كثيراً من البورتريهات، لكنه كان صانع بورتريهات شفاهية، إذ كان يختار ضحيته المناسبة فى سهرة من سهرات المثقفين ويبدأ فى الحكى عنه، ويحوله إلى كاريكاتور، بقدرة فائقة على التنقل بسلاسة من السرد إلى الحوار إلى تقمص الأصوات، إن كان هناك أكثر من صوت فى الحكاية الواحدة.

وبعد ضحك عنيف يتبادله مع المستمعين، يشعر بالذنب لحظة أو لحظتين لأنه لوَّث شخصاً ما، فيقول ما يقوله دائماً فى نهاية الحكايات: «لكن والله شخص نبيل»، ثم يضحك مرة أخرى، معترفاً بالتالى أن جملته لا تعدو سوى مجرد كذبة أخرى.

عاش حمدى الحياة باحثاً عن الحكايات، لا ليكتبها فى قصص أو روايات، فما كتبه قليل للغاية بالنسبة لما حكاه شفوياً. كان حمدى يقتنص مواقف بسيطة، قد تمر مرور الكرام على كثير من الكتَّاب غيره، لكنه يلتقطها ببراعة، ويضيف إليها، ويحورها، ثم يلقيها: على أصدقائه فى التليفون، وعلى أهله فى الفيوم، وعلى جيرانه فى العمرانية، وقبلها فى حلوان، وحتى على الأجانب الذين قابلهم فى سفرياته القليلة.

بعد ترجمة روايته «لصوص متقاعدون» إلى الإسبانية دعته ناشرته لحفل توقيع فى مدريد، وأخذته تلك الناشرة من مدينة فى كتالونيا، وذهبت به إلى مدريد، فشعر بأن تلك المدينة شاسعة وغريبة وقادرة على ابتلاعه وابتلاع قبيلته كلها إذا جاءت معه، لكنه كان مطمئناً بالطبع أنه فى حراسة ناشرته، وأنها لن تضيعه، لكنه لاحظ بعد قليل أنها مرتبكة، وتسأل كثيراً من الناس عن عناوين أماكن وشوارع، وأضاعت الطريق أكثر من مرة، ثم رأى الضياع فى عينيها، وهى تقول له إنها أول مرة لها فى حياتها تترك مدينتها الصغيرة وتأتى إلى مدريد. قال حمدي: «تخيل.. حينما تكتشف أن رفيقتك الإسبانية ضائعة فى إسبانيا، فكيف ستشعر وأنت من العمرانية؟!».

بطريقة خيرى شلبي.. فإن حمدى هو بدوى نزع (الجرد)، وارتدى القميص والبنطلون. حمدى يملك أكثر من علامة مميزة فى وجهه، إذ أن فكه أضخم من رحاية دشّ الفول، وأنفه يستقر مثل ضيف غير مرغوب فيه أسفل عينين تبدوان كأنهما تخصان شخصاً آخر، أما شعره فقد فشل فى السيطرة عليه تماماً حتى مع محاولة إخماد ثورته بطن «فازلين»، بينما الشامة فى ذلك الوجه ندبة صغيرة مميزة أسفل العين اليسرى. باختصار هذه ملامح قادرة على تشكيل كوابيس كل أطفال مصر.

حمدى يعترف: «عندى فعلاً مشكلة تجاه شكلي، وكل البدو لديهم تلك المشكلة، فهم يبحثون عن الشعر الحرير، وبالتالى أحمد الله كثيراً على أنهم ينظرون إليَّ بالكاد»، وأهل حمدى البدويون لم يستوعبوا لفترة طويلة ما الذى يفعله، وهم يرونه مجرد شخص غريب عنده «شوية كتب» فى بيته، يمضى وقتاً كبيراً فى القراءة، ولكن التحوّل جاء مع جائزة الجامعة الأمريكية، فقد بدأوا ينظرون إليه بعين الريبة، ليس بسبب ما يخصّ سياسة أمريكا، ولكن لأن الجامعة الأمريكية شيء كبير ومهم، كانوا مندهشين جداً فما الذى فعله ذلك الشخص ليحصل على جائزة منها؟! تستطيع أن تقول إنهم لا يفهمون كيف حصل على جائزة لها صدى إعلامى ضخم، بدليل أن حمدى ظهر فى الجرائد التى تصل إليهم فى الفيوم، غير أنهم بدأوا يلتفتون إليه. يقول ساخراً: «ويا ليتهم ما التفتوا»!

والسمعة التى اكتسبها حمدى فى مسقط رأسه، هو أنه يشتم العائلة فى «كتبه»، ويقول عنها أموراً شائنة، وكان كل واحد منهم يتحدث مع الآخرين، بحيث أصبحت السمعة عامة ولا غبار عليها. يقول حمدي: «يأتينى الواحد منهم، ويسألني: لماذا تفضح العائلة؟ فأسأله: هل قرأت أعمالي؟! فيرد بكل فخر: لا». يضحك حمدى ويكمل: «أنا فعلاً أتمنى أن يستمروا فى عدم قراءتي»!

أسأله عن نظرته إلى النساء، ولكن لأنه لا يأمن لى تماماً، بدأ إجابته بجملة ليست لها علاقة بالموضوع: «ليست لى أى علاقات نسائية». تحدث حمدى عن بحثه الدائم عن أنثى معينة فى كل الإناث اللواتى يقابلهن. قام بتحوير مقولة لهنرى ميللر، ورأى أن مقولته أكثر واقعية. يقول ميللر فى «سيكسوس»: «أنا أحب النساء، أنا أبحث عن النساء، فى كل من حولى من النساء»، ويقول حمدي: «أنا أحب البنات، أنا أبحث عن البنات، فى كل من حولى من البنات»، أضحك ساخراً من الفروق الجوهرية والعظيمة بين المقولتين، اللتين استبدل فيهما «النساء» ب«البنات»، فيضحك بدوره، مشيراً إلى أننا، ولا أعرف من يقصد بالتحديد، ننسحق دائماً أمام المقولات الأجنبية: «لديك استعداد لتفهم ميللر، ولكن ستصبح غبياً فيما يخصني»!

وحمدى يبدو متواضعاً ولكنه فى حقيقة الأمر لا يعرف التواضع، وعلى سبيل المثال قلت له مرة إن روايتك جميلة، ولكنه لم يرد، إذ أنه يتعامل مع الأمر باعتباره شيئاً مفروغاً منه، بشكل دقيق.. ثناؤك «واجب عليك»، وهو لا يملك فى قاموس التحية سوى «إزاى الحال»، وطموحه بالكامل يخص الكتابة، وأن يصل فيها إلى شيء عظيم.

وهو لا يكترث بطول العمر، لكنه يدعو الله أن يعيش عدداً من السنوات تكفيه لكتابة رواية عظيمة، وأن يمتِّعه بالصحة والسعادة، وأن يجعله أباً عظيماً حانياً، وزوجاً مخلصاً وفى نفس الوقت زير نساء، وتاجر ممنوعات، وناشراً، ومحكِّماً فى الأكاديمية السويدية، وحاصلاً على نوبل مرتين أو ثلاثاً.

من كتاب «ذئاب منفردة» الصادر عن «الكتب خان» بتصرف